”أنا آسفة.“ كانت تلك آخر لُقيا بيننا، وكانت كلماتي تلك آخِرَ كلماتٍ تسمعها مني هيستوريا. للأسف، سمِعَتها بصوتِ عملاقي الخشن لا بصوتي الذي اعتادت عليه.
مِعصَمايَ يؤلمانني بشدة. لا أستطيع التركيز فيما يحدث حولي. لماذا أنا هنا؟ ولماذا هذه الأصفاد؟ آه! تذكرت، أنا من اختار هذا المصير. ما عليَّ الآن سوىٰ انتظار تلك اللحظة، اللحظة التي أتخلص فيها من معاناتي، وأرتاح منها راحةً أبدية.
تستمر ذاكرتي بالعودة إلىٰ ذاك اليوم. فلتنا حينها من تلك العمالقة بأعجوبة. استمر راينر بعملاقه المدرع بالركض جنوبًا، لكنه كان أبطأ من العمالقة التي أمرها إيرين بمهاجمته. ما كان عليَّ إلّا أن أَتَوَلّىٰ مَهَمَّةَ الركض، فَعِملاقي، رغم ضُعفِ قوته، أسرعُ من المدرع بِمَرّات. ركضتُ بِعِملاقي لِحَوالَي ساعةٍ كاملةٍ حاملةً بيرتولت و راينر بعد أن خرج من عملاقه، ولم أتوقف حتىٰ وصلتُ بهما للوجهة المنشودة، للمكان حيث بدأ كل شيء، لمقاطعة شيغانشينا. تَسَلَّقتُ بِهِما السورَ الداخلي للمقاطعة، وأخذنا قِمَّتَه مكانًا لِراحتنا علىٰ ضوءِ بدرٍ جميلِ المنظر.
اِنتابَني شعور غريب حينها. بدأتُ أتساءَل مع نفسي لماذا فعلتُ ذلك، لماذا اتخذتُ هكذا قرار، أَكانَ فِعلي ذاك صائبًا أم أنه أسوأُ ما قَدِمتُ علىٰ فعله؟ سؤالٌ يتلو سؤالًا، حتىٰ أعادني راينر إلىٰ رُشدي بسؤاله عن سبب وقوفي في صفهِما، فكانت أول إجابة تخرج من فَاهِي هي ”لأنني غبية.“ لربما كنتُ فعلا كذلك، غبية، وربما لا، فما جعلني أفعل ذلك هو أنني أردتهما ألّا يعودا خالِيا الوِفاض. كانت أسئلتُهما حينها هي ما جعلتني أُجيب جوابًا شافيًا عن الأسئلة التي كانت تجوب في خاطري. قراري ذاك هو عينُ الصواب، فَلَو لم يأتِيا مع رفيقِهِما للجزيرة لَكُنتُ لا أزال أعيش ذاك الكابوسَ اللامتناهي. لقد كنتُ مدينةً لهما، وما قمتُ به هو فقط ردٌّ لِلدَّين. ما فعلتُه كان فقط قيامًا بواجبي بصفتي حاملةً لإسم يمير. لقد كنتُ سعيدةً بجوابي ذاك.
كنتُ أريد أن أروي قصتي لشخص ما قبل أن ألقىٰ حَتفي، ليس لِـراينر أو بيرتولت، بل لصديقٍ مقرب، وما من صديقٍ أقرب لي من هيستوريا. توقعتُ منه أن يوافق علىٰ طلبي، رغم كَونِه صعبَ التنفيذ، فقد كنتُ أعلم أنه كان يرىٰ نفسَه مدينًا لي هو الآخر. طلبتُ من راينر إيصال رسالةٍ إلى هيستوريا، فوافق كما توقعت. أخذنا قبوَ أحدِ منازلِ المقاطعة ملجأً مؤقتًا لنا، فأخذتُ منه ورقةً وقلمًا، وجلستُ أكتب رسالتي علىٰ طاولةٍ يكسوها الغبار، علىٰ ضوء شمعةٍ خافت، بينما راينر يَستَرِقُ النظرَ إلىٰ كلماتي بِغَيرَةٍ بادِيَةٍ علىٰ مُحَيّاه.
صحيح أنني توقعتُ منه العزم علىٰ إيصال الرسالة، لكني لم أتوقع منه تَحَمُّلَ ألَمِ شَقِّ صدرِه لِتَخبِئَةِ الرسالة داخلَه. لا أعلم كيف سَيوصِلها، لكني أثق أنه سيقوم بكل ما بوسعه لفعل ذلك.
لم يكن بوسعنا الانتظار أكثر، فلم يكن معنا لا طعام ولا شراب، وقد ارتحنا بما فيه الكفاية. خرجنا من قَبوِ المنزل وَٱمتَطَيتُ مع بيرتولت ظهرَ عملاق راينر وانطلقَ بنا خارج المقاطعةِ جنوبًا نحو ذاك الميناء. كما توقع راينر، كانت الطريق شِبهَ خاليةٍ من العمالقة، فجُلُّها كان داخل نطاق سور ماريا، لِذا لم أضطر إلىٰ التناوب معه في الركض. كل ما فعلتهُ طول الطريق هو الاستمتاع بمشاهدة آخر طلوع فجرٍ وشروقِ شمسٍ قد أشهدهما في حياتي هذه.
من هذا الذي يرتدي ذاك اللباس الأبيض؟ أشعر كأنني رأيته من قبل. في الجزيرة؟ لا أعتقد ذلك! إنها ذكرىٰ قديمة. هل كان من بين أفراد الطائفة؟ لا! فقد تم نفيهم قبل عقود. أَيُعقَل؟ هل من الممكن أن تكون هذه إحدىٰ ذكرياته لا ذكرياتي أنا؟
بمجرد اقترابِنا من وجهتنا، وظهورِ ذاك السور في الأُفُق، عادت بي الذكريات إلىٰ آخر مرة كنت فيها هناك، إلىٰ ذاك اليوم المشؤوم الذي بدأ فيه ذاك الكابوس الطويل. أغمضتُ عيناي، فلم أكن أريد تعكير صَفوِي. أردتُ أن أستمتع بِيَومي ذاك قدر الإمكان. عند وصولنا للميناء، وجدنا السفينة المارليّة تَتَرَقَّبُ عودة المحاربين مع هدفهِم كعادتها كُلَّ شهر. ظَنَّ الجنود المارليّون فَور رؤيتي أنني أنا حامل العملاق المؤسس، فخاب ظنهم عندما عرفوا الحقيقة. وكان ذاك هو وداعي مع راينر و بيرتولت.
لم أتوقع من الجنود المارليّين أن يعاملوني بلطف، لكني لم أتوقع أن تكون معاملتهم لشخص أتىٰ إليهم طواعيةً بذاك السوء. تم تكبيلي بالأغلال ثم رميِي في زنزانةِ السفينة، دون أن يقدموا لي حتىٰ ماءًا يروي عطشي بعد صيامٍ لأكثر من يومٍ وَلَيلة.
انتابني شعور بِـسبق الرؤية. فقد سبق وحُشِرتُ في زنزانةِ سفينةٍ مُكَبَّلةَ الأيدي في تنفيذٍ لحكم النفي. الفرق في المرة الثانية هو أن السفينة سافرت عكس اتجاه المرة الأولى، سافرَت بي من المنفىٰ نحو البلد الذي نُفِيتُ منه. كان هناك فرق آخر، في المرة الثانية أنا من اختار المصير بكامل إرادتي.
لا أذكر ما حدث بعد ذلك، فقد أُغمِيَ عليّ من شدة الجوع والجفاف، ولم أستيقظ حتىٰ وجدتُ نفسي علىٰ هذا الحال، مشدودةَ الذراعَين في انتظار الراحة الأبدية. نعم، أذكره الآن! لقد رأيته في ذكرىٰ ذاك المحارب الذي سلبتُه قوَّتَه وحياته. إنه أخوه الأصغر! يُسعِدني حقا أن أعيد ما أخذتُه إلىٰ من يستحق.
هيستوريا، أنا سعيدة لأنكِ أعدتِ إسمكِ الحقيقي، وسعيدة أكثر لأنكِ ستعيشين حياتكِ كما تريدين أنتِ، تمامّا كما فعلتُ أنا. آنَ الأوان يا هيستوريا. الحقنة الآن في يده، وهو يحقنها في ذراعه، يتحول إلىٰ عملاقٍ هائم، ويتوجه نحوي. هذه هي نهايتي، وأنا سعيدة بها. وأخيرًا، سأرتاح.
إسمي يمير. حملتُ هذا الإسم بِفَخرٍ، عِشتُ به بِفَخرٍ، وسأموت به بِفَخر. وداعًا.
0 تعليقات